
ذلك ليس تبجيلاً أو انحيازاً أو تشجيعاً للظِّالمين؛ و لكنَّه إقراراً بالواقع الّذي يحياه الظَّالم، بينما يعيش المظلوم مسحوقاً منكوباً فلا يحيا و لا يعيش..
و تجد أكثر الظَّالمين مستكثرين في زُمَر؛ بل لا يبرح أحدهم مجلس الآخر لاقتفاء العِظَة و الطّرائق فيما تمّ استحداثه في فقه المظالم..
و لا يأبهون بآهات المظلومين و لا تأوّهات المنكوبين؛ بل قد لا يرونهم بعدما أفضوا إليهم بما تجود به القرائح مِن ظلمات..
و يحيكون مِن الأسباب التي تبرّر لهم أمام الآخرين فعالهم؛ أمّا في خلواتهم فهم ذوي أنفسٍ عطبةٍ تستلذّ بشقاء الآخرين، و ذلك ناجم عن عُقدٍ دفينة أمّها الانتهازيّة في أسمى معانيها..
بل إنّ جُلَّ الجرائم تقع تحت بند المظالم..
و يستزيدون مِن الجَوْر في الحقوق، و الإجحاف في المعاملة، معتدّين بِكَ و بما لديك مستباحاً لهم و هو من ضمن حقّهم المكفول، ليس قانوناً و شِرعة؛ لكنَّها أشبه بشريعة الغاب.. بل إن شريعة الغاب تميل أن تكون أرقى قليلاً.. بل إنّها شريعة الغوغاء و أخلاق المنحطّين..
و مَن ظلم بدمٍ بارد لا يخشى المولى عزّ و جلّ و لا يهتم بمواليه، فمَن ظَلَمَ عمداً فهو لصٌّ سارق و عدوّ مارق؛ فإن كان لا يعتدّ بيوم التّلاقي فلن يأبه إن كان للظّلم ساقي..
أمّا حين المواجهة و إلزام الحُجّة؛ فإن ردوده تحتمل مِن القباحة ما يجعل المظلمة أهون مِن صفاقة التّبرير؛ ظلماتٌ بعضها فوق بعض، فلا تجول في صدورهم المودّة و لا تزور قلوبهم الرّأفة؛ فهم في سعيهم لإعلاء مصالحهم ككلبٍ لاهِث..
أمّا بخصوص المروءة؛ فحدّث و لا تتحرَّج، فكونه اقترف تلك المظلمة و هو عالمٌ بافتضاح أمره و انكشاف ستره و رغماً عن ذلك هو ماضٍ في طريقه، ذلك منظور شارح لما هو مكنونٌ في صدره من عريٍّ للمروءة و جفاف ماء الوَجه، فتجده غليظ الحديث حقير المحيا حين العتاب، و مهما تكن الأسباب فوصفه الكذّاب، و إنّه يدين بدين الانتهازيّة، و يرجو حياة “البورجوازيّة”، و حتّى لو كان غير ذي مزِيَّه.. ذلك أنّه يرتقي بالظّلم على أكتاف المسحوقين..
و الظّالم على غير شاكِلة؛ فهو ما بين مُجاهر و مستتر، و ما بين مُبادر و مرتقب، و صانع أفخاخ و محارب، و مبطّئ معطّل و سارق و متبجِّح و غيرهم؛ بل إنّ أشكالهم لا توفّه الكلمات، فهم مِن القريب و الغريب و الجائل و السّائح و العابٍر و القاصي و الدّاني..
و يُعاونه في إمعانه المجتمع الذي هو ما بين متفرّجٌ سلبيٌّ لا يشجب، و ما بين متجنِّبٌ له مخافة الضّرر، ثم بعد ذلك يتحدّثون عن مضارّ الظّلم في شكل العموم، فلا يلقى الظّالم ملامةً و لا يعتدّ بمضمون الرّسالة..
و مَن يواجه الظّالم لاسترداد حقّه، فإن الظّالم يستميت في العداوة لمنعه من الاسترداد، بل يشحذ كلّ قاذوراته النفسيّة و الفكريّة و اللّغوية و القلبيَّة و القَبَليّة لإجهاض المحاولة، و لو استطاع لجعله عبرةً للتخويف و منع المحاولات لمن يعتبر..
و إنْ يُرِد الظّالم توبةً – فيما نَدَر- فإنَّه يكتفي بمحصول المظالم، ثمّ يبني على أطلاله قصره المشيد مدّعياً التّاريخ المجيد، و بسؤاله عن السرّ الفريد، فإنّه للرَّدِّ لا يُجيد، ذلك أنّه مُدَّعٍ كذوب، و خصاله ليست أصيلة لكنها كالمِلح تذوب..
و لا جدوى مِن نُصح المُستَلِذّ بطعم الظُّلم، فقلبه غُلْف، و لا يستشعر اللطائف و لا يستوعب النَّاصح الطَّائِف، و هو مِن النصائح في نفور، و بالحديث عن الحقوق قلبه يفور، و في طلب المستحقّات يثور.. ذلك سمت وجهه و نبض قلبه و طبع عقله، فلا تجدي معه النّصيحة و لكن يفلح في نكئِهِ الدُّعاء..
فتراه مِن بعد الاستجابة في همّ، و مِن بعد النّشوة الغمّ، و لا ينفعه النّدم، و مآل ريعه العَدم..
و لا تنفعه الدّموع بعد أن جفّ عنده الينبوع، و لا يسعفه الأسف بعدما قهره الجبَّار و خَسف..
ارتقبه في الطّريق بعد الدُّعاء، و هو ساعٍ من السِّعة للضّيق، و من العيشة الميسورة لأسوأ الصيرورة، و مِن سرعة القرار إلى لهفة الفرار، و مِن حلاوة الأخذ إلى مرارة الفقد، و مِن قلبٍ لاهثٍ جامِع إلى قلب فاقدٍ دامع، و مِن آفاق المستقبل الزّاهر إلى لعنات الماضي الغادِر، و مِن حبكة الأحابيل إلى وعرة السّبيل، و مِن لوعة الاستمتاع إلى لذعة الامتناع، و مِن نشوة الحًفلة إلى حسرة الغفلة، و مِن الانتهاز المستور إلى الحظّ المبتور، و مِن المظهر الباسِم اللافت إلى البؤس الشّاحب الخافت، و مِن الضّمير العاطل إلى الإحساس بحسرة الباطِل..
آمين..
فيا أيُّها الظالم؛ عش طويلاً و اجنِ المزيد.. فماؤك غوراً لا يغني من ظمأ، و كلَّما ازددتَ زادت خزائنك، و كلَّما زادت خزائنك زادت ديونك، فعُظمت ذنوبك و شقّ عليك الوفاء و السًّداد..
و يا أيُّها المظلوم المكلوم، إنَّك دائن.. الدَّيَّان حيٌّ لا يموت؛ فالجأ لبارِئِك.. فعنده لا تضيع الودائع…
#بقلم_محمد_عوض